إن كانت التكنولوجيا قد أثرت على تطور حياة الشعوب فإن العديد من اللحظات التي تغير عندها التاريخ ترجع أساساً إلى أفكار إبداعية جديدة. فالحياة الإدارية والاقتصادية التي نعيشها الآن ليست سوى لحظات من الإبداع الإنساني سبقت أي تطور تكنولوجي متقدم.
بل يمكن القول بأننا نعيش الآن عصر الأفكار أو التفاكر Ideation أو التناطح بالابتكار حتى صارت الميزانيات المخصصة لذلك في بعض الشركات تتجاوز ما تحققه من أرباح مما أدى إلى خروجها من سباق التسلح بالأفكار. إن فكرة الإنترنت، المشاركة الأوروبية، أوروبا الموحدة، اتفاقية الجات، شهادات الأيزو، إعادة هندسة العمليات الإدارية Process Re-engineering ليست سوى أفكار إبداعية رائعة قفزت بها البشرية أسواراً عالية من الجمود الفكري وضربت بالقيود والحواجز عرض الحائط. حتى أصبح عالم المعرفة بين يدي كل الراغبين في ذلك دون مشقة أو عناء.
لقد شهدت البشرية عصوراً عديدة من التقدم والازدهار كعصر النهضة، عصر المعلومات، وعصر التكنولوجيا. وهاهي تشهد الآن عصر يمكن أن تطلق عليه (عصر الأفكار) فهذا التزاحم الفكري والتسارع المذهل في تغيير صور الحياة الاجتماعية على أثر الأفكار الإبداعية المتتالية ليست سوى دليل بسيط وقاطع في الوقت نفسه على حيوية (الأفكار الجديدة). وفي هذا المجال نجد أن الدول المتقدمة تضع الإبداع في مقدمة اهتماماتها القومية والوطنية باعتبار أنه الركيزة الأساسية للتقدم والازدهار. بل أن (الإبداع) يكاد يكون هو السيناريو الاستراتيجي للولايات المتحدة للسيطرة على العالم، فمن خلال تشجيعها للأفكار الإبداعية وحمايتها استطاعت أمريكا أن تحصد ما يزيد عن 180 جائزة من جوائز نوبل عن أعمال وأفكار وابتكارات حيوية مكنتها من احتلال الصدارة وقيادة قاطرة تقدم باقي الشعوب ليس فقط بسبب اقتصادها القومي بقدر ما هو من خلال (فكرة إبداعية).
وبالرغم مما عرف عن اليابان من قدرة شعبها على الإبداع والابتكار، إلا أن زيادة إحساسهم بالجماعية (روح الفريق) والترابط الاجتماعي أفقدهم في الوقت نفسه مزايا (روح الفردية الإبداعية) فاليابان تتميز (بالإبداع الجماعي) في حين تميزت أمريكا (بالإبداع الفردي)، قدمت لنا اليابان أفكاراً إدارية ناجحة مثل دوائر الجودة والإدارة بلا شكاوي، والعمالة مدى الحياة وجميعها مفاهيم تدعم روح الفريق وتؤكد أهمية الانتماء والولاء للجماعة أو بالأحرى (أسرة العمل) في حين تميزت الإبداعات الأمريكية (بالروح الفردية المغامرة) التي استثمرت كل تباينات أفراد الشعب الأمريكي بجذورهم وأصولهم التي تنتمي إلى بلاد وشعوب مختلفة ضمن التسابق التنافسي الحاد منهم لمزيد من الإبداع والابتكار. بل إن الأبطال الأوائل من صناع الإنجازات الاقتصادية الأمريكية هم أولئك الذين استطاعوا أن يجمعوا بين التمرد على الواقع وبين تحويل الفكرة إلى واقع، فمخترع السيارة هنري فورد ومخترع الكهرباء توماس أديسون ليس سوى نموذجين لشخصيات استطاعت أن تقهر العرف السائد وتحول فكرها إلى اختراع مفيد للبشرية من خلال (روح رجل الأعمال) فتحولت فكرة السيارة إلى مصانع ضخمة لإنتاج السيارات وتحولت فكرة (لمبة الإضاءة) إلى أكبر شركة في العالم وهي شركة جنرال إليكتريك.
فالإبداع هو محصلة متغيرين رئيسيين هما: (تمرد فردي حر على الواقع المألوف و تحويل الفكرة إلى واقع مرغوب فيه) وهنا يكمن سر إخفاق بعض الشعوب في أن تأتي بفكر إبداعي جديد، أو تأتي متخلفة عن ركب الإبداع الإنساني عن دول أخرى سبقتها في هذا المجال. إن خلق الآلية الذهنية التي تساعد النشء على (التمرد الحر على الواقع المألوف) تستلزم في حقيقة الأمر نظماً تعليمية مختلفة تعتمد على الاختلافات الفردية في تصميمها وفي أدواتها وتعتمد كذلك على تشجيع الخروج على المألوف كبديل لتشجيع الطاعة والانصياع إلى (السوابق) والإطارات الفكرية الجامدة لأفكار وقيم من سبقونا. ويعني ذلك أن نشجع وجهات النظر المخالفة لنا أكثر من تشجيعنا وجهات النظر المطابقة للمعلمين والمدرسين وأساتذة الجامعات والرؤساء حتى أصبح النجاح في بعض المجالات مرتبطاً (بالإجابة النموذجية) للوزارة / للرئيس / المدرس.
وهو ما ينتهي بنا إلى إجابات ونتائج نموذجية ولكن لا يؤدي بنا إلى مخرجات نموذجية والسبب في ذلك هو (إتباعنا .. سياسة التوحيد والتنميط والتماثل سواء في الأسئلة أو الإجابات). بل أن الكثير من العبارات صارت تتردد بين النشء أو الشباب أو حتى الموظفين تؤكد في مجملها حتمية وجدوى (عدم الخروج عن النص) أو عدم تغيير شئ أو إتباع المألوف، أو عدم إحداث التغيير المستهدف ما لم يكن هناك (نص قانوني) بذلك. وبذلك صار التفكير محصوراً بين قوسين (النموذج السابق وضعه من ناحية وبين النص القانوني الملزم من ناحية أخرى) فانهارت بذلك روح التمرد الفكري الحر بداخل النشء والشباب وانتهى سباق التسلح بالأفكار في مجتمع الشباب إلى سباق التسلح بالماضي. .مما أفقد الإدارة المصرية آلية توليد الأفكار وصارت ممارسات الإدارة المصرية ليست سوى مشاهد روتينية متكررة ومشاكل يومية متتالية تعود عليها المواطن لدرجة أفقدته الإحساس بها حتى صار التغيير الجذري أحد مجالات أحلام يقظتنا. وقد يكون من المجدي أن نسترشد هنا بتجربة الصين في تحديد النسل ومدى تأثيرها السلبي على الإبداع وإجهاض روح التمرد الحر لدى شباب رجال الأعمال هناك الأمر الذي جعلها تتخلف كثيرا في هذا المجال عن غيرها من شعوب المنطقة.
إن الشرط الذي وضعته الصين للسيطرة على زيادة السكان وهو (أسرة ذات طفل واحد) كان من بين الأهداف السياسية الرئيسية لها. إلا أن التجربة أثبتت أن طفل الأسرة الواحد (هناك 70 مليون أسرة ذو طفل واحد) من فرط اهتمام الأبوين بها فضلا عن الخوف عليه وافتقاده للحوار مع آخرين من نفس عمره، أفقده على مر السنين رغبته في التمرد بسبب تبعيته لتعليمات الأبوين الحريصين ولزيادة حرصهم على ضرورة التزامه (بالنموذجية المرجعية الأصولية) في التفكير. حتى بدء المجتمع الصيني الآن يعاني من ظاهرة نضوب الفكر الإبداعي لدى المديرين الشباب بسبب إتباع منهج (الإجابة النموذجية).
عملياً نحن لا نحتاج إلى إجابة نموذجية بقدر ما نحتاج إلى سؤال نموذجي. أن الفكر الإبداعي يطرح تساؤلات إبداعية (غير منطقية) حتى يصل إلى حلول منطقية لمشكلات حادة، تماماً كما فعل بنا الإنترنت عندما طرح سؤالاً غير منطقي (لماذا لا تصبح المعلومات المتاحة لدى الجميع متاحة لدى الجميع مجاناً وفوراً), وأيضاً تماماً كما فعلت البطاقات البلاستيكية (البطاقة الائتمانية) عندما طرحت سؤالاً لماذا نحمل النقود معنا ونحن نتحرك وجاءت الإجابة (تحرك في كل مكان وضع نقودك في مكان واحد). أما الافتقار إلى الشرط الثاني لتشجيع الإبداع وهو تحويل الفكرة الإبداعية إلى واقع فكان كذلك وراء العديد من حالات الفشل الإداري نظراً لتوقف المنشآت والمنظمات عند مرحلة الاستماع والاستمتاع بالفكرة الجديدة دون وجود آلية تحويلها إلى واقع فتبقى الفكرة عندئذ رهينة أحلام اليقظة ويكثر الحديث عنها. ويفشل الفرد لأنانيته أو خوفه في الإعلام عنها حتى تجهض أو تسرق أو تموت الفكرة أو يموت صاحبها غدراً أو كمداً وتفقد الأمة بذلك رصيداً بشريا وفكرياً هائلا كان بالإمكان أن تصبح نقطة تحول في تاريخ البشرية تماماً كما فعلت فكرة الفيمتو ثانية التي قدمها زويل التي تمرد بها على الواقع والمسلمات وحول فكرته إلى واقع من خلال فريق عمل فعال.