الإستراتيجية كما يعرفها علماء الإدارة هي الطريق الدائمة التي يسير عليها الإنسان في حياته. وكل إنسان يحتاج دائما إلى الاستراتيجيات في مواقف مختلفة من حياته.
فيحتاج على سبيل المثال إلى إستراتيجية للحوار مع الأبناء، وإستراتيجية لعرض خدماته على العملاء، وإستراتيجية أخرى لتوزيع وقته بين مشاغل اليوم... وهكذا.
إذن فإن الإنسان يستخدم العديد من الاستراتيجيات اليومية. والاستراتيجيات التي يستخدمها الإنسان قد تقود للنجاح في المهمة وقد تفشل. وهذه الاستراتيجيات انغرست وانطبعت في نفس الإنسان منذ الصغر فهو يستخدمها بشكل تلقائي، ويستطيع تغييرها إذا تنبه للعيب الذي فيها وعمل على ذلك. وسنتعرف في هذا الموضوع على خصائص استراتيجيات النجاح ويستطيع كل إنسان بعد ذلك بدراسة استراتيجياته أن يعرف إن كانت تتحلى بتلك الخصائص أم لا.
ولعل القصة التالية تكون أبلغ في التعبير عن مفهوم الإستراتيجية. يحكى أن رجلا أعمى جلس على إحدى عتبات عمارة ووضع قبعته بين قدميه وبجانبه لوحة مكتوب عليها: " أنا أعمى أرجوكم ساعدوني". فمر رجل إعلانات بالأعمى ووقف ليرى أن قبعته لا تحوي سوى قروش قليلة فوضع المزيد فيها، ومن دون أن يستأذن الأعمى أخذ لوحته وكتب إعلان آخر. عندما انتهى أعاد وضع اللوحة عند قدم الأعمى وذهب بطريقه. وفي نفس ذلك اليوم مر رجل الإعلانات بالأعمى ولاحظ أن قبعته قد امتلأت بالقروش والأوراق النقدية. فعرف الأعمى الرجل من وقع خطواته فسأله إن كان هو من أعاد كتابة اللوحة وماذا كتب عليها؟ فأجاب الرجل: " لا شيء غير الصدق, فقط أعدت صياغتها". وابتسم وذهب. لم يعرف الأعمى ماذا كتب عليها لكن اللوحة الجديدة كتب عليها: "نحن في فصل الربيع لكنني لا أستطيع رؤية جماله".
لعل أسرع وسيلة للتعرف على الاستراتيجيات الناجحة وخصائصها هو التعرف على استراتيجيات الناجحين في الحياة. وبتتبع ودراسة العديد من الشخصيات الناجحة وجد أن هناك خصائص مشتركة تربط بين استراتيجيات هؤلاء الناجحين وسنتناول هذه الخصائص بالشرح والتوضيح في الأسطر التالية:
ولنبدأ أولا بالتعرف على عناصر الإستراتيجية. النموذج التالي يوضح العناصر الأساسية للإستراتيجية. وهذا النموذج بني على أساس العديد من الدراسات التي أجريت بغرض نمذجة الشخصيات الناجحة. وقد وجد أن الإستراتيجية الناجحة تحتوي على ثلاثة عمليات أساسية:
1. تحديد الهدف.
2. العمل لتحقيق الهدف مع إرهاف الحواس.
3. المرونة.
فالإستراتيجية الناجحة تبدأ بتحديد الهدف المراد الوصول إليه، ثم يبدأ الإنسان بالعمل لتحقيق ذلك الهدف مع التركيز وإرهاف الحواس للتحقق باستمرار من أنه يسير باتجاه الهدف، وفي هذه الأثناء يتساءل باستمرار، هل تحقق الهدف، فإذا كانت الإجابة نعم أوقف العمل، وإلا اتجه إلى عملية المرونة للبحث عن وسائل أخرى توصله للهدف، ثم عاد إلى العمل وهكذا.
فعلى سبيل المثال إذا كان البائع يتحاور مع مشتر ليقنعه بإتمام عملية الشراء، فعلى البائع قبل البدء بالعمل أن يحدد هدفه. فلو بدأ الحواء مع المشتري بدون هدف فإن الحوار ربما يتحول إلى حوار اقتصادي أو سياسي أو قد يخوض في المشكلات الاجتماعية وينتهي الوقت ولم يحقق البائع هدفه. إذن يبدأ البائع بتحديد الهدف ولنقل إنه إقناع المشتري بجودة السلعة وأنها ستقوم بالغرض الذي يسعى المشتري لتحقيقه وبسعر منخفض. والآن يمكن أن يبدأ عملية العمل مع إرهاف الحواس. فيبدأ الحوار مع المشتري ويسأله عما يريد، فإذا قال المشتري أنه يبحث عن هدية لصديق بمناسبة نجاحه، فيعرض عليه بعض عالية الجودة المناسبة، فإذا لم يناسبه شيء منها، اتجه نحو عملية المرونة ليختار طريقة أخرى والتي قد تكون من خلال السعر، فيعرض مجموعة أخرى ذات سعر أرخص، فإذا لم يناسبه شيء منها، اتجه نحو المرونة مرة أخرى وربما سأل المشترى عن المواصفات التي يرغب في توفرها في السلعة. وهكذا يستمر في التنويع في أساليبه وخياراته مستعينا بصندوق العدة "المرونة" حتى يصل غلى هدفه وتنتهي العملية.
والآن لنجلس مع كل عملية من العمليات الثلاث جلسة هادئة وقصيرة لنتعرف على خصائصها والجوانب الهامة فيها والتي ستساعدنا لنجعل من استراتيجياتنا استراتيجيات ناجحة بإذن الله. ولنبدأ بتحديد الهدف.
الهدف للإنسان كالمنار للسفينة، وكالبوصلة للطائرة. بدونها تتيه السفينة في المحيط وتتخبط الطائرة في الفضاء. هذه العملية هي أهم العمليات الثلاث وعليها ينبني ما بعدها وإذا تمت بنجاح كان احتمال نجاح ما بعدها وإلا فالفشل سيكون مصير الإستراتيجية كلها. وهذا من الأمور البديهة فالإنسان الناجح هو ذلك الإنسان الذي يسير ويتحرك ويتصرف ويتكلم بناء على أهداف مرسومة يعمل على تحقيقها أما الإنسان الذي ليس له أهداف فإنه سيبقى يراوح مكانه. وأهمية تحديد الهدف تتضح أكثر إذا علمنا أن هذه العملية تؤثر على العقل اللاواعي للإنسان ويصبح بالتالي يسير نحو الهدف تلقائيا. هل سرت ذات مرة في الطريق لقضاء حاجة ما فوجدت نفسك قد وصلت إلى المنزل أو مكان عملك دون أن تشعر. من الذي قادك إلى هناك؟ نعم، إنه اللاواعي. عندما نستطيع أن نغرس أهدافنا بشكل عميق في عقلنا اللاواعي فإنه بالتالي يقودنا بشكل تلقائي نحو الهدف. وسنتعرف في الفقرات التالية على خصائص الهدف الناجح وكيفية غرسه في اللاواعي بشكل عميق ثم كيف نرعاه بشكل دائم ومتكرر ونسقيه ونغذيه حتى ينمو ويترعرع وكأننا نسمع صوت ندائه وهو ينادينا بصوت عذب جميل أن هلم إلي فأنا في انتظارك.
خصائص يتمتع بها حتى يكون فعالاً وهي:
1) التحديد والوضوح:
لابد أن يكون الهدف محددا حتى أسعى لتحقيقه، فإذا قلت أن هدفي رفع الإنتاج مثلاً. فهذا هدف غير محدد. فلا بد أن يكون هناك معايير لقياس هذا الهدف من خلال الكمية أو النوعية أو النسبة المئوية أو الزمن أو جميعها. فأجعل هدفي رفع الإنتاج بنسبة 10% خلال 6 أشهر مع المحافظة على مستوى الجودة. وبتفكيرك في الجوانب التي تحدد الهدف وتوضحه تكون قد غرست البذرة الأولي في الطريق نحو جني الهدف.
2) أن يكون إيجابيا وأن يستحق العمل من أجله:
هذه الخاصية ستكون إطارا للخاصية الأولى. فتختار من الأهداف ما يستحق أن تبذل وقتك وجهدك من أجله وتصوغه صياغة إيجابية. فمثلا هدفي أن لا أكون سمينا. فصيغة النفي تعمل بشكل عكسي فترسخ صورة السمنة في اللاواعي. فأنا إذا قلت لك لا تفكر في أسد أخضر اللون ينام على ظهره رافعاً أرجله إلى الأعلى. فإنك بالتأكيد قد فكرت في تلك الصورة مع أنني طلبت منك ألا تفكر. إذن أهدافك ينبغي ألا تشتمل على صيغة النفي أبدا.
3) أن تضع مسئولية تحقيقه على نفسك:
عندما تضع أهدافك ينبغي أن تكون هي أهدافك أنت فعلا لا أهداف شخص آخر وبالتالي فمسئولية تحقيقها ستكون عليك أنت بشكل كامل. لا يعني هذا أن لا نستعين بأحد ولكن عليك أن تتابع الأمر وتتحقق من سير الأمور على نحو يحقق الهدف. فالهدف التالي مثلا عندما يضعه أب لنفسه : أن يحصل ابني على الامتياز في الدراسة، لا يحقق هذا الشرط. فالحصول على امتياز في الدراسة ينبغي أن يكون من أهداف الابن، أما الأب فيمكن أن يكون هدفه أن أراجع مع ابني دروسه بمعدل ساعة كل أسبوع، مثلا. تحمل المسئولية سيكون أول غذاء تغذي به هدفك لأنك بذلك تزرع الثقة والمسئولية في نفسك وتبدأ التحفز للعمل.
4) التفكير في الدلائل التي تبين الاقتراب من تحقيقه:
الهدف شيء رائع أن يعمل للوصول إليه الإنسان. ولكن كيف أعرف إن كنت أقترب من هدفي أو أبتعد عنه أو كنت أراوح في مكاني. نحتاج عند وضع أهدافنا إلى تحديد العناصر والعوامل التي تدلنا على المسافة المتبقية للوصول غلى الهدف. فالسائق الذي يقود سيارته نحو هدف يبعد 10 كيلومترات مثلا، يراقب عداد الكيلو ليحدد كم بقي له حتى يصل هدفه. فلديه مجس يستخدمه دائما للتعرف على ذلك. وكل منا يحتاج مثل ذلك المجس الذي ينير طريقنا ويساعدنا على التعديل في مسارنا من أجل بلوغ الهدف.
وجود مثل هذا المجس سيكون له دور إضافي في تحفيزنا على الاستمرار في السير نحو الهدف. حيث نشعر بتقدمنا في الطريق بعكس من يسير دون أية دلائل على تقدمه فإنه قد ييأس نتيجة عدم وجود ما يشعره بحركته وتقدمه.
فلو وضع بائع لنفسه هدفا أن يرفع مبيعاته بنسبة 10% خلال 3 أشهر مثلا. فأحد الدلائل على تقدمه نحو هدفه أن ترتفع مبيعاته بعد شهر بمقدار 2%، فيحفزه ذلك على الاستمرار. دليل آخر على ذلك أن يتلقى خطاب شكر من رئيسه على جهوده لرفع مبيعاته. دليل آخر أن يتلقى المزيد من طلبات الشراء من عملائه. ودليل آخر أن يتعرف على عملاء جدد مما يزيد من فرصه لرفع المبيعات... وهكذا. مجرد التفكير في مثل هذه الأحداث قبل وقوعها فعليا وتخيلها وكأنها حدث مع تأمل صورها وسماع أصواتها واستشعار مشاعر الفرح بالنجاح يعتبر كالماء والسماد للأهداف يغذيها وينميها ويزيدنا قناعة بها وبإمكانية تحققها مما يشكل حافزا لنا على بذل المزيد من أجل الوصول إليها.
5) دراسة الآثار السلبية والإيجابية:
دراسة الآثار السلبية والإيجابية للهدف جانب مهم للغاية في حياة الهدف. فلو وجد الإنسان أن الهدف الذي يسعى إليه سيكون له آثار سلبية على حياته تفوق الفوائد التي سيجنيها منه فعليه أن يختار بين أمرين. إما أن يجد حلولا لتلافي الآثار السلبية قبل الشروع في العمل من أجل الهدف أو إلغاء الهدف لأنه غير مجد. وكمثال على الآثار السلبية الإنسان الذي يرغب في إكمال دراسته العليا، إذا وجد أن تحقيق هذا الهدف سيعيقه عن عمله الذي هو مصدر رزقه، وسيعيقه عن تربية أبنائه تربية سليمة والوفاء بحقوق الزوجية نحو زوجه، ولم يجد أي وسيلة لتخفيف هذه الآثار. فإن العمل من أجل هذا الهدف يمكن أن يدمر حياته فعليه إلغاءه أو على الأقل تأجيله.
بعد التحقق من الاحتياطات اللازمة للآثار السلبية ننتقل إلى دراسة الآثار الإيجابية. ونقصد بالآثار الإيجابية الجوانب التي ستتحسن في حياتك كنتيجة حتمية لتحقق الهدف. والتعرف على هذه الجوانب بشيء من الاستقصاء يؤدي إلى زيادة الحافز من أجل تحقيق الهدف بل ويجعل العمل من أجله ممتعا كذلك. فالطالب الذي وضع له هدفا أن يحصل على شهادة البكالوريوس بتقدير ممتاز في مجال تخصصه، سيكون من الآثار الإيجابية قدرته على الحصول على وظيفة أو إكمال دراسته العليا بحسب رغبته. ومن آثار تحقق ذلك الهدف أيضا حصوله على المكافأة التي وعده بها أبوه. ومنها أن يحضر حفل التخرج في الجامعة ويتسلم شهادته من مدير الجامعة في حفل مهيب ويعيش تلك اللحظات بكل حواسه، فيتخيل صورة ذلك الحفل كفلم متحرك يحدث الآن ويستمع إلى الكلمات التي تلقى في الحفل ويسمع التهاني وهي تقدم له من أهله وأصدقائه، ويشعر بمشاعر الفرح والفخر والسرور والراحة وكل ما يتمنى أن يشعر به في ذلك اليوم. كل هذا سيتم عند وضعه للهدف، أول السنة على سبيل المثال، ولكن معايشته لهدفه بهذه الطريقة سيلهب حماسه للعمل على تحقيق ذلك الهدف. وسيصبح تذكر هذه الصور والأصوات كالوقود له ينشطه كلما فتر. وكل ما سيحتاجه هو أن يتذكر صورته وهو يعيش حفل التخرج ويعيش التجربة لثوان مما يعطيه جرعة هائلة من الحماس. وسيكون هذا الخيال أفضل غذاء يغذي به نبتته هدفه الصغيرة لتنمو وتترعرع ويأتي أوان حصادها آخر السنة بإذن الله.